قصة كفاح

قصة كفاح وإصرار: رحلة علي الشمراني من الظلام إلى النور

قصة كفاح وإصرار: رحلة من الظلام إلى النور

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

بداية مؤلمة وبصيص أمل

تبدأ هذه القصة مع طفلٍ في الرابعة من عمره، حين أصابه مرض الحصبة -أجارنا الله وإياكم- وأثر على عينيه. وفي محاولة يائسة للعلاج، وبدافع من لهفة الأم على شفاء طفلها، تم استخدام الكحل الشعبي بطريقة خاطئة، حيث كان يُصبُّ في عينيه صبّاً دون استخدام “المِرْوَد”، مما أدى إلى تراكمه وتكوُّن طبقة من البياض غطت بصره بالكامل تقريباً.

نشأ هذا الطفل وترعرع معتمداً على عينٍ واحدة سليمة، بينما الأخرى غطاها البياض. وبهذه العين الواحدة، التحق بالصف الأول الابتدائي في المدرسة الرابعة بالدمام، وكافح ليشق طريقه بنجاح من صفٍ إلى آخر حتى أكمل المرحلة الابتدائية. ولكن مع بلوغه الثانية عشرة، وبسبب الاعتماد الكلي عليها، بدأت عينه اليمنى السليمة تضعف هي الأخرى.

الطريق إلى معهد النور.. صدمة وقرار مصيري

بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، توقف عن الدراسة لمدة سنتين كاملتين بحثاً عن علاج في المستشفيات دون جدوى. وبناءً على نصيحة أسرته، توجه إلى الرياض لمواصلة تعليمه في معهد النور للمكفوفين، بعد أن استنفد كل محاولات العلاج. وهناك، كانت الطامة الكبرى؛ فعندما أراد إكمال دراسته المتوسطة، فوجئ بخبرٍ صاعق: “يجب أن تعود إلى الصف الأول الابتدائي من جديد!”. كان السبب هو عدم إتقانه لطريقة “برايل” للمكفوفين.

وُضع هذا الفتى أمام خيارين قاسيين: إما أن يتراجع ويعود ست سنوات إلى الوراء، أو أن يترك التعليم نهائياً. لكن إصراره ورغبته في العلم دفعاه لاتخاذ القرار الأصعب. بصبرٍ واحتساب، قبل التحدي وبدأ رحلته التعليمية من نقطة الصفر، متعلماً القراءة والكتابة عن طريق اللمس بـطريقة برايل.

ثمار الصبر: تفوق وإنجاز

أبحر هذا الطالب الصبور في رحلته الجديدة، فأنهى سنوات الابتدائية الست مرة أخرى، ولكن هذه المرة بتقدير “امتياز” في كل عام. وعندما وصل إلى الصف السادس، عُرض عليه منحه الشهادة مباشرةً كونه اجتازها سابقاً، لكنه رفض قائلاً: “لقد حرمتموني ست سنوات من عمري، فلن أضيّع فرصة إنهاء ما بدأته خلال الشهور الثلاثة المتبقية”.

واصل مسيرته بنفس التفوق، فأنهى المرحلة المتوسطة، ثم الثانوية، وكلها بتقدير “امتياز”. وفي آخر سنة له في الثانوية، جاء أمرٌ ملكي كريم من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- يفتح أبواب الجامعات أمام المكفوفين، مع صرف مكافأة إضافية لهم “بدل قارئ”.

مسيرة جامعية وعملية حافلة بالعطاء

لم يتردد لحظة، فالتحق بجامعة الملك سعود بالرياض واختار تخصص التاريخ. وكتشجيعٍ للطلاب المكفوفين المتزوجين، كانت الجامعة توفر لهم سكناً مؤثثاً. وبالفعل، تزوج بعد السنة الثانية وأنجب ابنه الأكبر وهو لا يزال طالباً، حتى تخرج بعد أربع سنوات.

بعد التخرج، خُيّر بين التدريس في التعليم العام أو التربية الخاصة، فاختار معهد النور في الأحساء ليكون قريباً من أهله. عمل معلماً لمادة التاريخ لمدة خمس سنوات، ثم أصبح مشرفاً على برامج دمج المكفوفين في التعليم العام، قبل أن يتوج مسيرته بتعيينه مديراً لمعهد النور للمكفوفين بالأحساء، وهو المنصب الذي أمضى فيه عشرين عاماً حافلة بالنشاط والعطاء في كافة المجالات الرياضية والثقافية والاجتماعية.

خبير متطوع في خدمة الإنسانية

بعد رحلة عملية امتدت لثلاثين عاماً، تقاعد من عمله الرسمي، لكنه لم يتقاعد عن رسالته. أصبح خبيراً في تعليم المكفوفين، وكرّس وقته وجهده للأعمال التطوعية، موجهاً ومثقفاً للطلاب وأولياء أمورهم. كما التحق بالمركز العربي المتخصص لإعلام أصحاب الإعاقة وتدرج فيه حتى أصبح رئيساً له، منظماً للمؤتمرات والملتقيات في كافة البلاد العربية، بالإضافة إلى عضويته في العديد من الجمعيات داخل المملكة وخارجها. ولا يزال صاحب هذه القصة يعمل بجهد ومثابرة، يبتغي بعمله وجه الله تعالى وخدمة ذوي الإعاقة.

“إن حياة المعاق تبدأ حينما يقرر أن يكون له شأن، ويثبت أقدامه على أرض صلبة. فإثبات الوجود هو أول الطريق للنجاح. هذه نبذة بسيطة عن كفاحي وإصراري حتى أصل إلى ما يرضي نفسي، وأقوم بخدمة إخواني من ذوي الإعاقة… وهذا المعاق البصري هو محدثكم وكاتب قصته هذه، لتكون نبراساً يقتدي به كل من يريد أن يترك له بصمة في هذه الحياة.”

أخوكم ومحبكم،
علي محمد الشمراني
من المملكة العربية السعودية
دمتم في رعاية الله وحفظه.